top of page

١٨ رجب ١٤٤٦ هـ

هل يكون انتصار غزة تعجيلاً بزوال إسرائيل؟

بقلم الدكتور سعد الفقيه

انتصار المقاومة لم يكن أمام آلة القتل الإسرائيلية فحسب، بل قد انتصرت على تحالف عالمي كبير ثبتت أمامه أكثر من سنة رغم القتل والدمار، وأَرغمت إسرائيل على النزول على شروطها. لقد ثبتت أمام أمريكا التي وقفت بقضها وقضيضها مع إسرائيل عسكرياً وسياسياً، ومعها بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وثبتت أمام تآمر الدول العربية العملية في خنق غزة وتأمين الوقود والغذاء لإسرائيل، وثبتت أمام خيانة السلطة الفلسطينية التي بذلت كل جهد في تجريم المقاومة وحرمانها من دعم الضفة.


هذا الثبات، ثم قدرة المقاومة أن ترغم إسرائيل على النزول على شروطها في الاتفاق الأخير لم تعهد إسرائيل مثله من قبل، لأنها لم تحارب جيوشاً عربية مخلصة وصادقة، بل حاربت عملاء خونة يمارسون تمثيليات على شكل حروب مع إسرائيل. لم يكن هذا النصر الغزاوي إنجازاً عابراً، بل هو جهد عقود من التربية والتخطيط والإعداد الدّيني والنّفسي والعسكري والاستراتيجي الذي آتى أكله بجدارة.


المهم في هذا الإنجاز الغزاوي أنه لم يأت معزولاً بل أتى في سياق تطورات كثيرة تنبيء حتماً بزوال قريب لإسرائيل، أو بعبارة أخرى هو عامل مهم في تسريع زوال إسرائيل الذي يساهم فيه أسباب أخرى كثيرة. في هذا المقال عرضٌ لهذه الأسباب، وأهمية انتصار غزة في تسريع هذا الزوال.


الأجيال المؤسسة لإسرائيل والأجيال الحالية

الفوارق بين الأجيال الأولى التي صنعت إسرائيل والجيل الحالي لها دور مهم في انحسار المشروع الصهيوني بل ربما نهايته. ومن المعلوم أن كل دولة يتغير دور الجيل المؤسس عن دور الأجيال التي تليه لكن في الحالة الإسرائيلية سيكون لهذا التغيّر دور في مصير إسرائيل ذاتها والله أعلم.


الفرق الأول أن الأجيال المؤسسة غلب عليها العصامية والجدّية والانشغال بما له علاقة بتأسيس إسرائيل وقوتها، بينما الأجيال الأخيرة غلب عليها التّرف والتّخلي عن المسؤولية والانشِغال بسفاسف الأمور بل والوقوع بمصائب المجتمعات الغربية كالمخدرات والتفكك الأسري والمثلية … الخ.


الفرق الثّاني أن الأجيال المؤسسة غلب عليها استحضار مصلحة المشروع الصّهيوني وتقديمه على المصالح الشّخصية سواء كان الشخص فرداً عادياً أو من النّخب الفكريّة والسّياسيّة، بينما انتشر بين الأجيال الأخيرة تغليب المصالح الشّخصية والتوجهات الفئوية على مصلحة المشروع الصهيوني.


الفرق الثّالث أن الأجيال المؤسسة كان يغلب عليها التّوجه العلماني رغم وجود المظلة الدّينيّة لتأسيس إسرائيل، وقد ساهم هذا التّوجه العلماني في انسجام المشروع الصّهيوني مع الاستعمار الغربي في التعامل مع التحديات. أما الأجيال المتأخرة فقد انتشر بينها التّدين الصّهيوني الذي عطّل القدرات البراجماتية للدولة وهو ما  سيجعلها في صدام حتمي مع العالم عموماً والغرب خصوصاً. وأحد أسباب هذا التغيير أن المتدينين أكثر حرصاً على الأسرة والإنجاب مما جعل الوقت في صالحهم حين كثرت ذريتهم وزاد تمثيلهم في البرلمان فارتفعت نسبة تأثيرهم في القرار ومن ثم مصير إسرائيل.


الفرق الرّابع أن الأجيال المؤسسة كانت واقعية عمليّة عارفة بقدراتها المحدودة ومدركة لحاجتها للغرب وتحييد الحكومات العربية، وكانت قراراتهم وتصريحاتهم مليئة بالمسكنة والمظلومية. أما الأجيال المتأخرة فقد غلب عليها الغطرسة والعنجهية والغرور واعتقاد السيطرة على العالم وعدم المبالاة في الاستخفاف حتى بأمريكا الراعية لهم. ومن القواعد المعروفة في مصير الدول أن الغطرسة وعدم الواقعية سبب مهم من أسباب السقوط.


إسرائيل والغرب من مصلحة إلى عالة

أنشأت بريطانيا الاستعمارية إسرائيل بدعم من القوى الغربية التي كانت مقتنعة بالتّخلص من الفائض اليهودي والاستفادة منه في تأمين مصالح الاستعمار في المنطقة العربيّة. ولكن مع نجاح الغرب في تثبيت سلطات خائنة في الدّول العربيّة وقدرتها على تطويع الشّعوب للغرب لم تعد هناك حاجة لإسرائيل لتقديم هذا الدّور.


وفي موازاة ذلك تحولت إسرائيل من عامل نفع للغرب إلى عالة من خلال ممارساتها ضد الشعب الفلسطيني كسلطة محتلة عنصرية تنتهك كل الحقوق البشريّة وتستفز النّاس في دينهم وعروبتهم. هذا الاستفزاز قلب دور إسرائيل من دور نافع إلى دور ضار كونها سبب في تنامي الكره العربي للغرب وتضخم الظّاهرة الجهاديّة والنّزعة الثّوريّة  ضد الحكام الخونة الموالين للغرب.


والذي أبقى الدعم لإسرائيل رغم انحسار دورها الوظيفي و تحولها إلى عالة هو نمو اللوبي الصّهيوني في الدّول الغربيّة وخاصة أمريكا وإجبار هذه الدّول على دعم إسرائيل على حساب مصالحها الوطنية.


مصير اللّوبي الصّهيوني بعد الشّعبوية

لم تكن إسرائيل بحاجة لأي لوبي في بدايات نشأتها لأن القناعة بوجودها وقوتها كانت متجذرة في الفكر الاستعماري والوجدان الشعبي الغربي. واستمر هذا الوضع إلى لحظة إعلان دولة إسرائيل في ١٩٤٨ وتصاعد حتى وصل ذروته في حرب ١٩٦٧ التي كانت تتويجاً للمراهنة الغربية على دور إسرائيل. والصّهاينة كانوا يدركون أن القناعة بدولتهم سوف تنحسر وعليهم أن يوجدوا حيلة أخرى لاستمرار الدعم فاستَثمروا اللّوبيات مستغلين الأنظمة الدّيموقراطيّة في كل الدّول الغربيّة وخاصةً أمريكا.


بدأت فكرة اللّوبي الصّهيوني بشكل بسيط في العشرينات الميلادية وتحولت بعد عقود إلى قوة مسيطرة لا تستطيع منافستها أي قوة سياسية أخرى. واستغل اللّوبي الصّهيوني الدّوافع الدّينيّة والسّياسيّة والمصلحيّة في البداية ثم بعد تمكنّه من المال والإعلام سيطر على مفاصل كثير من الدّول واكتفى بالرّشوة والابتزاز والإرهاب الإعلامي والوظيفي، ولم يعد بحاجة لاستخدام الدّوافع الدينيّة والسّياسيّة.


واللّوبيات لا يمكن أن تنتعش إلا في بيئة ديمقراطيّة متوازنة يستطيع اللّوبي أن يستغل التّوازن بين أطرافها والتّنافس السّياسي الهادئ القائم على اعتبار الآخر مجتهداً لمصلحة الوطن. لكنّ الشّعبويّة الشّرسة التي تتفشى الآن في الغرب وخاصة أمريكا سوف تزيل هذا التوازن وترفع وتيرة الصّدام السّياسي وتحوله إلى صراع قريب من العنف قائم على اعتبار الآخر خائناً مجرماً يسعى لتدمير البلد بعد أن كان مجتهداً.


وإذا صاحب هذه الشعبوية وصول رموز قيادية مُشبِعة لرغبات هذه الشعبوية ولها نزعة دكتاتورية فإن اللوبيات سوف تُجرَّد تدريجياً من التأثير على السياسة، لأن الزخم الشعبوي يزيل التوازنات والثغرات التي تستخدمها اللوبيات. أما إذا وصل للسلطة حاكم غير قابل للابتزاز فسوف تخسر اللوبيات المزيد من نفوذها بل ربما ينتهي تأثيرها تماماً.


مصير الأنظمة العربية الخادمة لإسرائيل

وفرت الأنظمة العربية العميلة المحيطة بإسرائيل حماية دائمة للكيان الصهيوني وجعلت حدود الكيان آمنة دون جهد من الكيان نفسه. هذه الحماية لم تكتف بتوفيرها الأنظمة المحاذية لإسرائيل مثل مصر والأردن وسوريا بل ساهمت فيها دول أخرى مثل السعودية والإمارات من خلال استخدام نفوذها المالي والديني والسياسي والإعلامي في خدمة الكيان الصهيوني وقتل روح المقاومة في الشعوب. ثم هناك الجهة الأكثر فاعلية في خدمة الكيان وهي السلطة الفلسطينية التي تحولت إلى جزء مهم من أجهزة الأمن الإسرائيلية. لكن هل تستمر مساهمة هذه الأنظمة العميلة في توفير الأمن للكيان الصهيوني؟


بدأ توجه الشعوب العربية للعدالة والكرامة والحرية والعودة للمظلة الإسلامية في الربيع العربي الذي بقيت جذوته وميضاً تحت الرماد قابلاً للاشتعال بعد الثورة المضادة. والآن نجحت الثورة السورية في بعث مسار الربيع العربي، ولا مفر من أن تسير الأحداث اليوم أو غداً في تغيير شامل يُجرِّد الغرب من السلطات العميلة التي تخدم المشروع الصهيوني ومن ثم يُجرّد إسرائيل من الحماية التي توفرها هذه الأنظمة.


هذا التغيير قد يحصل بسلسلة ثورات على الأنظمة، وقد يحصل بحدث إقليمي كبير يتسبب في زوال أنظمة وربما زوال دول كاملة ومحو بعض آثار سايكس بيكو. وحين يحصل ذلك فلن يكون لإسرائيل أي أولوية في الحماية من قبل الغرب، وسوف يجد الغرب نفسه مضطراً للتفاهم مع الأنظمة الجديدة على حساب إسرائيل.


النفسية الإسرائيلية المهزومة

هناك قناعة راسخة في الوجدان الإسرائيلي أن دولتهم كيانٌ مصطنع في محيط يرفضه، وقد حُشر بطريقة مُعتسفة تخالف التاريخ والجغرافيا. الفرد الإسرائيلي يدرك أن عجز المحيط عن لفظ هذا الجسم المزروع هو وضع استثنائي وليس الأصل، وأن الوضع الأصلي سيعود ويُلفظ الشعب الإسرائيلي كله.  لكن الجيل الأول من المؤسسين لإسرائيل كانوا يعيشون تحدّي الإنشاء بدرجة جعلت هذا التّحدي طاغيًا على الوساوس الأخرى فضلاً عن الدعم غير المحدود من القوى الاستعمارية ثم أمريكا.


وحتى بعد التطبيع مع حكومات عربية فإن الشعب الإسرائيلي على يقين في عقله الباطن أن ضمير الشعوب العربية يرفض وجودهم وسيكون هذا التطبيع أمرًا مؤقتًا. وهذا ما حصل فعلًا مع السلطة الفلسطينية، فقد كانت غزة مركزاً لقمع المقاومة بعد إنشاء السلطة الفلسطينية، ثم دارت الدائرة بعد طرد السلطة منها فأصبحت مركز الخطر على إسرائيل. لكن بقاء غزة محاصرة في مساحة صغيرة بتعاون كامل مع الحكومة المصرية خفف هذا الهاجس حتى بعد تكرار المحاولات في إطلاق الصواريخ.


ودفعا لهذه الوساوس لم يبق للشعب الإسرائيلي إلا أن يضع كل ثقته  في جيش الدفاع الإسرائيلي معتمداً على تفوقه في السلاح والتقنية في مواجهة القطاع المحاصر الذي يفترض أن حصاره يحرمه من أي إمكانات.


وما حصل مع غزة هزيمة للصهاينة باعترافهم أنفسهم من خلال كل منصّاتهم الإعلامية والفكرية والاستخبارية. وهذه الهزيمة تدمير لهيبة الجيش وكشف عجزه أمام المقاومة ما سوف يزيل هذه الثقة ويصنع رعباً عظيماً في الشعب الإسرائيلي غير قابل للتعافي.


وفقدان الثقة بالجيش الإسرائيلي لن تأتي مستقلّة بل ستأتي مع استحضار كل الإسقاطات النفسية الأخرى، ومن ثم سوف يتضاعف الانهيار النفسي في الشعب الِإسرائيلي ويترتب عليه إنهيار حتى في أداء الجيش نفسه.


النتيجة

الخلاصة هي أن إسرائيل زائلة وقريباً ولن يكون زوالها حدثاً معزولاً بل سيكون تحولاً كبيراً في المنطقة وربما العالم وسوف يضطر الغَرب إلى احترام شعوب المنطقة والتعامل معها بندّيّة بعد أن تعامل معها بعبودية وتبعية، والله أعلم.


مقالات ذات صلة من موقعنا:

من حصار الخندق إلى غنائم كسرى هل يتكرر الحدث في غزة

متى تتخلى أمريكا عن إسرائيل؟

طوفان الأقصى هل ينتج قطفاً متأخراً لثمار الربيع العربي؟

دور العقلية الاستعمارية في الدعم الغربي غير المحدود لإسرائيل

نحن والغرب وإسرائيل، مفتاح التغيير

مستقبل إسرائيل

  • Whatsapp
  • Twitter

عبدالله الغامدي

د. سعد الفقيه

  • Whatsapp
  • Facebook
  • Twitter
  • Snapchat

للإتصال بنا عن طريق البريد الإلكتروني:

لدعم نشاط الحركة الإعلامي:

Digital-Patreon-Wordmark_FieryCoral.png
bottom of page